حتى الولايات المتحدة بدأت تتخوّف من الوضع هناك، فبعد "الآن" و "فورًا" والانتشاء بالثورة قبل أشهرٍ، وزيارة ميدان التحرير، صارت هيلاري كلينتون تقول: "إن الربيع العربي وصل إلى منطقةٍ صعبةٍ غير محددة المعالم تفصل بين الديكتاتورية والديمقراطية، وأن بعض التغييرات يجب أن تحدث ببطء" صحيفة الشرق الأوسط"، الخميس الماضي، وأضافت: "علينا المحافظة على صوتنا وسط هذا المزيج"، وقالت: "عندما نتحدث عن بناء حكومةٍ ديمقراطية، لا يقتصر الأمر على إجراء انتخاباتٍ، بل نأمل أن يعودوا لحماية التجمع السلمي وحرية العبادة والحقوق الأساسية، التي تمثل القيم الديمقراطية".
والسؤال هو هل للتوّ فقط اكتشفت الوزيرة الكريمة أنّ الاحتجاجات العربية ستمرّ بـ "مرحلة صعبةٍ"، وأنّ ما يجري الآن هو "مزيج" من الديمقراطية والديكتاتورية، من الحرية والفوضى؟ وبناء عليه أصبحت تنظّر عن الفرق بين الانتخابات كآلية ديمقراطية وبين "قيم الديمقراطية"؟ كلام جميل وواقعي ولكنّه جاء متأخرًا شيئًا ما، وجاء مناقضًا لتصريحاتٍ سابقةٍ كانت أكثر حلمًا ووهمًا.
الطبيعي أن يعقب كل ثورةٍ شعبيةٍ عصر من الفوضى ومرحلة من ما يسميه بعض علماء الاجتماع والاجتماع السياسي "مرحلة الإرهاب"، تطول أم تقصر، تلك مسألة أخرى مرتبطة بعوامل أخرى، تئد الثورة أم تعززها، أم تكون مرحلةً في الطريق، تلك أيضًا مسألة أخرى، ولكنّ هذه الفوضى يجب أن تخيف كل متابع، وأن ترعب كل مراقب، فهذه الفوضى قابلة لإشعال كل الكوامن، الطائفية والقبلية والدينية والهوياتية والإثنية، وهي الفتنة كما هو التعبير العربي الجميل.
وفي عصر الفوضى يخرج المخربون من كل مكانٍ، ويغلو الغالون بكل اتجاه، ويطالب المحتجون بالمستحيل، ولكلٍ توجهه وفئته، ولكل مصالحه ومنافعه، سيندفع المحتجون بكل اتجاه، وسيبقى للأقوياء توجيه تلك الاحتجاجات لما يخدمهم، وقيادة الجموع لما يرغبون، وإدارة دفعة الصراعات باتجاه ما يريدون، وسيبقى الشباب الثائر تائهًا بين الفرقاء الأقوياء.
الأصوليون متأهبون ومنظّمون ومتغلغلون في الشارع، والجماعة الإسلامية كذلك، والسلفيون منتشرون ومؤثرون وإن كانوا أقلّ تنظيمًا فهم أكثر حماسةً وأقل وعيًا في السياسة وموازناتها وصيغها وأساليبها، والثلاثة منفردون أقوى من الشباب الثائر وأكثر أنصارًا وأتباعًا، ومشاريعهم شبه مكتملة، وخطابهم منجز، ورؤيتهم واضحة، وهو ما يملك الشباب المتحمس بعضه، هذا وهم منفردون فكيف إذا تحالفوا بأي شكلٍ من الأشكال في الانتخابات القادمة وفي كتابة الدستور الجديد؟ ماذا سيصنع الشباب؟ وأين ستذهب ثورتهم؟
إنّ هذه المخاوف لا تتعلق بالشباب وحدهم، ولكن بالأحزاب الأخرى من يمينٍ ويسار، من ليبراليين إلى يساريين، من نوبةٍ إلى أقباط، وكذلك كثير من المثقفين المستقلين الساعين لإقامة دولةٍ مدنيةٍ حقيقيةٍ تحمي الأقليات وتراعي حقوقهم وتدافع عنهم قبل أن تمنح السلطة للأكثرية، التي ربما تكون أكثر تسلطًا من النظام السابق.
هذه القوى مجتمعةً بحاجة ماسة للجيش وللمجلس العسكري لضمان مدنية الدستور ومدنية الدولة بعيدًا عن أماني الأصوليين بدولة ذات مرجعية دينية، أو بالشريعة كما يفهمها بعض الأصوليين، ما يعني لو تمّ انتقال مصر من عصر الفوضى إلى عصر الظلمات.
كان في النظام السابق فساد ظاهر وأثرة بينة، وصار في الثورة فساد من نوعٍ آخر، حيث الفوضى بكل ما تكتنزه من تفاصيل، وكم أعجبتني عبارة وقفت عليها لعلي بن أبي طالب يتحدث عن حال عثمان والثوّار عليه حين قال: "إنّه استأثر فأساء الأثرة، وجزعوا فأساءوا الجزع"، لست أشبّه شخصًا بشخصٍ ولا ثوّارًا بثوّارٍ، ولكنني أجدها كلمةً معبرةً عن المشهد برمّته، وتمنحه وصفًا دقيقًا ومقاربةً متزنةً.
لم تزل مصر عالقة بين ثورة لم تكتمل ودولة تضعف ونظامٍ لم يصنع بعد، بين محاكمة الماضي والتشفّي منه والانتقام من رموزه وأفراده وبين الالتفات لبناء مستقبل أجمل، ونظامٍ قوي، واقتصاد منتج، ودولة راسخة الأقدام، وخيارات الشعب المصري والمجلس العسكري في مرحلة من أكثر مراحل تاريخ مصر حرجًا وشتاتًا.
معي التحيات